فصل: مسألة اشتريا من رجل عبدا ثم ادعى أحدهما أن البائع كان أعتقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة اشتريا من رجل عبدا ثم ادعى أحدهما أن البائع كان أعتقه:

وقال أصبغ في رجلين اشتريا من رجل عبدا، ثم ادعى أحدهما: أن البائع كان أعتقه، قال: لا تجوز شهادته على البائع، وأرى أن يعتق عليه نصابه منه بشهادته، ثم أرى أن يقوم عليه ما بقي من العبد؛ لأني أتخوف أن يكون إنما أقر بهذا احتيالا؛ لئلا يقوم عليه ما بقي من العبد، قال: والولاء للمشهود عليه أنه كان أعتقه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها: أن الشاهد لا يعتق عليه نصيبه للضرر الداخل على أشراكه، وعبد العزيز بن أبي سلمة يقولان: إنه يعتق عليه نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه، وقول أصبغ هذا قول ثالث في المسألة، وقد مضى ذكر هذا في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر وأخرى بالعراق:

وسئل أصبغ عن بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وشهدت بينة أخرى أنه كان يومئذ بالعراق، قال أصبغ: هذا حد قد ثبت لا تزيله هذه البينة التي شهدت أنه كان بالعراق؛ لأنها لم تشهد على فعل آخر، إنما شهدت أن الذي قالت البينة الأولى لم يكن، فذلك غير مقبول، قيل له: فلو شهدت بينة أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وشهدت بينة أنه سرق ذلك اليوم بالعراق، أتوجب عليه الحدين جميعا؟ قال: لا، بل تطرح كلتا الشهادتين؛ لأنهم شهدوا على أمر مختلف وفعلين لا يمكنان جميعا، فإن قلنا: إن إحدى البينتين قد شهدت بحق، فإنا لا ندري أيهما هي، فسقطت الشهادة بالشك، قيل: وكذلك لو قالت هذه البينة: إنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وقالت الأخرى: إنه قتل إنسانا بالعراق؟ قال: أطرحهما جميعا، قلت: فشهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وشهدت بينة أخرى أنه زنى ذلك اليوم بعينه بالعراق، أتطرح هذه أيضا؟ قال: لا، بل أثبت عليه حدا واحدا؛ لأن كلتا البينتين إنما شهدت بالزنى، فحد الزنى حد واحد؛ لأني أعلم أن إحدى البينتين صادقة، فقد وجب عليه الحد إما بهذه وإما بهذه؛ فلابد من إقامة الحد عليه بأحد الزنائين، قال: وكذلك لو شهدت أيضا بينة أنه قتل فلانا بمصر، وشهدت أخرى أنه قتل فلانا بالعراق، وقام أولياء المقتولين جميعا قتلته بهما؛ لأن إحدى البينتين صادقة.
قال محمد بن رشد: تفرقة أصبغ هذه في اختلاف البينتين، إذا شهدت إحداهما على رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، بين أن تقول البينة الأخرى: إنه كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه سرق أو قتل ذلك اليوم بالعراق، أو... إنه زنى ذلك اليوم بالعراق، أيضا فإن قالت: إنه كان بالعراق، وإنه زنى بالعراق؛ أقيم عليه حد الزنى، وإن قالت: إنه زنى أو قتل بالعراق، سقط عنه الحدان جميعا، هو على قياس المشهور من مذهب ابن القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا بالزيادة كانت التي زادت أعمل، وإن اختلفتا في الأنواع سقطتا جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بالأعدل، وقد قال ابن القاسم: إن البينتين إذا اختلفتا بالزيادة سقطتا، إلا أن تكون إحداهما أعدل؛ فيقضى بالأعدل كاختلافهما في الأنواع، فيلزم على قياس هذا إذا قالت إحدى البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه زنى ذلك اليوم بالعراق؛ أن تسقط البينتان جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بها، كما لو قالت: إنه سرق ذلك اليوم بالعراق أو قتل، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن كل بينة منهما مكذبة لصاحبتها في الوجوه كلها؛ إذ لا يمكن أن يكونا جميعا صادقين، فإذا لم يمكن ذلك وجب أن يسقطا جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بالأعدل؛ لأن الظن يغلب أنها هي الصادقة، وقول أصبغ: إنه يقام عليه حد الزنى إذا قالت إحدى البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه زنى في ذلك اليوم بالعراق، وإنه يقتل إذا قالت إحدى البينتين: إنه قتل فلانا بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه قتل فلانا لرجل آخر ذلك اليوم بالعراق، وقام أولياء القتيلين جميعا بعيد، لاسيما في الزنى؛ لما جاء من أن الحدود تدرأ بالشبهات.
وتعليله لإقامة الحد والقتل عليه بما قال من أنه يعلم أن إحدى البينتين صادقة غير صحيح؛ لأنه إذا علم أن إحداهما كاذبة، واحتمل أن تكون كل واحدة منهما هي الكاذبة، احتمل أن تكونا جميعا كاذبتين، وإذا احتمل أن تكونا جميعا كاذبتين، وأن تكون إحداهما صادقة، والثانية كاذبة، لم يصح أن يحكم بأن إحداهما صادقة إلا أن تكون هي أعدل، فيغلب على الظن صدقها، وإلى هذا نحا محمد بن عبد الحكم على ما قد ذكرناه عنه، في نوازل سحنون، ويأتي على قياس قول مطرف وابن الماجشون عن مالك في أن البينتين إذا شهدت إحداهما، بخلاف ما شهدت به البينة الأخرى، واستوتا في العدالة أنه يقضي بما شهدتا به جميعا، أنه يحد حد الزنى، ويقطع في السرقة إذا شهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه سرق في ذلك اليوم بالعراق، وهو بعيد جدا، والله الموفق.

.مسألة صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي الساعة وشهد رجلان أنه لم يقتله:

وسئل أصبغ عن صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي الساعة، وشهد رجلان أنه لم يقتله، وأنهما كانا حاضرين حتى سقط الصبي فمات، وأن الصبي الذي شهد عليه الصبيان لم يضربه ولم يقتله، قال أصبغ: أرى شهادة الصبيين تامة، ولا يلتفت إلى شهادة الكبيرين، وإنما ذلك عندي بمنزلة أن لو شهد كبيران أنه قتله، وشهد كبيران آخران أنه لم يقتله على نحو مسألتك، فشهادة من شهد بالقتل أولى، قيل له: أو لا ينظر إلى العدالة في هذا؟ قال: اعلم أن الدماء والجراح والعتاق والطلاق والحدود، كلها لا ينظر فيها إلى العدالة بعد أن يكون من شهد عليه عدلا مرضيا في شهادته، فهي أولى من شهادة من تعرض لها بالرد، وإن كانوا أعدل.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إغراق في القياس على أصل غير مسلم الصحة، فقد ذكرنا في المسألة التي قبل هذه، أن الذي يوجبه القياس والنظر أن ينظر إلى أعدل البينتين إذا اختلفتا، وإن كانت الواحدة موجبة والثانية نافية، فكيف إذا كانت إحداهما صبيانا، فقول سحنون في نوازله: إن شهادة الصبيان تسقط بتكذيب الكبار لهم، هو أولى بالصواب، والله أعلم.

.مسألة شهد على شهادة أبيه:

وسئل عمن شهد على شهادة أبيه وأبوه عدل مرضي مشهور العدالة، لا يحتاج إلى تزكية، فيأتي الابن فيشهد على شهادة أبيه، قال: لا تجوز شهادة الابن على شهادة أبيه، ولا شهادة الأب على شهادة ابنه، انظر أبدا كل من لا يجوز لك أن تعدله، فلا يجوز لك أن تشهد على شهادته، وإن كان المشهود على شهادته عدلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا: إنه لا تجوز شهادة أحدهما على شهادة صاحبه، بخلاف ما مضى لسحنون في نوازله من إجازة شهادة الابن على قضاء أبيه؛ لأنه إذا جاز أن يشهد الابن على ما قضى به أبوه، والأب لو شهد في ذلك، لم تجز شهادته، كان أحرى أن تجوز شهادته على شهادة أبيه؛ إذ لو شهد الأب في ذلك لقبلت شهادته، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الأقضية تحصيل القول في هاتين المسألتين، وفيما هو في معناهما من شهادة كل واحد منهما عند صاحبه ومعه، فلا معنى لإعادته.

.مسألة أعتق عبدين ثم إن العبدين شهدا أن هذا المعتق غصبهما من هذا الرجل:

وسمعته سئل عن رجل أعتق عبدين، ثم إن العبدين شهدا أن هذا المعتق غصبهما من هذا الرجل، وغصب معهما مائة دينار، قال: لا يرجعان في الرق للذي شهدا أن هذا المعتق غصبهما منه بشهادتهما؛ لأنه لا يجوز لحر أن يرق نفسه، وتجوز شهادتهما في المائة التي يزعمان أنه غصبها معهما، قلت: وكيف يجوز بعض الشهادة ويبطل بعض؟ قال: هو بمنزلة امرأتين شهدتا في وصية رجل بوصايا وعتق، فأجيز شهادتهما في الوصية، وأبطلها في العتق.
قال الإمام القاضي: لسحنون في كتاب ابنه أنه لا تجوز شهادتهما في المائة ولا لأنفسهما، وهو الأظهر؛ لأن شهادتهما على غصب المعتق لهما إنما لم تجز من أجل أنهما يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، والشهادة إذا رد بعضهما للتهمة ردت كلها بخلاف إذا رد بعضها للسنة، فساوى أصبغ في هذا بين أن يرد بعضها للتهمة، أو للسنة في أنه يجوز من الشهادة التي فيها التهمة ما لا تهمة فيه، كما يجوز من الشهادة التي فيها ما لا يجوز في السنة ما يجوز فيها، وقد قيل: إن الشهادة إذا رد بعضها للسنة ردت كلها، فالمشهور إذا رد بعض الشهادة للتهمة أن ترد كلها، وقد قيل: إنه يرد منها ما لا تهمة فيه، وهو قول أصبغ هذا، والمشهور إذا رد بعض الشهادة للسنة أن يجوز منها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها، وذلك قائم من المدونة، من قوله في شهادة النساء للوصي: إن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز إن كان فيها عتق وأبضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها لانفراد الشاهد بها دون غيره؛ أنها تجوز فيما تصح فيه شهادة الشاهد الواحد، وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثال ذلك: أن يشهد الرجل على وصية رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد، وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة المعتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى ذلك السدي عن أشهب وجميع جلسائه، وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها، وسقط عن حفظ بعضها؛ فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل فدفع الغريم الحق حين شهد الأب:

وسئل عن رجل شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل، فدفع الغريم الحق حين شهد الأب، وظن أن ذلك يلزمه، أو دفع إلى الأجنبي حصته، وحكم عليه بذلك، فلما اقتسماه هو والابن، وبان به الأجنبي، طلب الغريم نقض ذلك، وتكلم في شهادة الأب، قال أصبغ: ذلك له، يرد ذلك الحكم؛ لأنه حكم خطأ وخلاف السنة وظلم؛ لأن شهادته لابنه كشهادته لنفسه، وشهادته للأجنبي كشهادته لابنه؛ لأن أمرهما واحد، لا يكون للأجنبي شيء إلا كان لابنه فيه نصيب، فهو مردود كله، وهذا إنما قلنا إذا سقط بعض الشهادة سقطت كلها، فإذا نقض، فإن كان مع الأب شاهد غيره حلف مع شهادته واستحقا، وإلا فلا، قلت: فإن كان الغريم دفع من غير قاض ولا سلطان حكم عليه، ولكنه دفع من قبل نفسه، وقال: ظننت أن شهادة الأب جائزة، إذا شهد لأجنبي مع ابنه فدفعت إليه، ولم أرد أن ألجئهم إلى السلطان، ثم أخبرت أن شهادة الأب لا تجوز، فأنا أريد الرجوع.
قال: ليس له رجوع، ولا كلام في هذا، وأراه بمنزلة الذي ينفق على المطلقة قبل أن يستبين بها حمل، أو يقول: ظننت أنه كان يلزمني، فليس له رجوع عليها إن انفش حملها، وقبل أن ينفش لما قد تقدم، وإنما له لما يستقبل، فأما إذا دفع ومضى، فليس له فيه رجوع، قلت: وكذلك إن شهد شاهد لرجل بحق على رجل، فدفع إليه بغير يمين، ثم أتى بعد ذلك يتعقبه بيمين وقال: لم أظن أن لي عليه يمينا، فأنا أريد أن أستحلفه أيكون ذلك له؟ فإن لم يحلف رد ما أخذ أو كيف؟ فقال لي: هذا أبعد وأبعد، لا يكون له قول ولا رجوع.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن له رجوع إذا دفع بشهادة الأب؛ لأنه حمل عليه أنه علم أن ذلك لا يلزمه، ولم يصدقه فيما ادعى من أن ظن أن ذلك يلزمه، وقد قيل: إنه يصدق في ذلك إذا كان ممن يشبه أن يجهل مثل هذا، وهذا الذي يأتي على ما في كتاب الصلح، في الذي يصالح عن دم الخطأ، وهو يظن أن الدية تلزمه، وفي كتاب الشفعة في الذي يثيب على الصدقة، وهو يظن أن الثواب يلزمه، وكذلك اليمين إذا تطوع بتركها، فليس له فيها رجوع؛ لأنه لا يصدق فيما ادعى من أنه ظن أنه لم يكن عليه يمين، ويدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في الذي دفع بشهادة الأب، ولو حكم عليه بالدفع بشهادة الأب؛ لوجب أن يرجع بماله؛ لأنه حكم خطأ يجب فسخه، وكذلك لو حكم عليه بالدفع بالشاهد الواحد دون يمين؛ لكان من حقه أن يستحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف واسترجع ماله، ولا خلاف في ذلك أعلمه.
وأما الذي ينفق على المطلقة قبل أن يستبين حملها، ثم يتبين أنه لم يكن بها حمل، فقد قيل: إنه لا رجوع له عليها، وإن أنفق عليها بقضاء، وهو قول مالك في كتاب النكاح لابن المواز، ومعنى ذلك عندي إذا لم تقر الزوجة أنه لم يكن بها حمل، وادعت أنها أسقطته، وفي مسألة الذي ينفق على المطلقة، ثم يتبين أنه ليس بها حمل أربعة أقوال؛ الرجوع من غير تفصيل، وأن لا رجوع من غير تفصيل، والفرق بين أن ينفق بقضاء أو بغير قضاء على وجهين، وقد مضى القول على هذه المسألة في سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، وفي أول سماع أصبغ، ورسم المكاتب منه من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها:

قال أصبغ في الشاهدين يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة، وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها كالمرود في المكحلة، فقال: تسقط شهادتهما في الطلاق؛ لأنهما قاذفان حين رمياه بالزنا، وعليهما له الحد بقذفهما إياه، قلت: ولم حملت عليهما الحد، وإنما شهدا أنه وطئ امرأته التي أثبتها أنت تحته، ولم تقض بطلاقها؟ قال: ألا ترى أنهما يزعمان أنها ليست بامرأته، وأنه وطئها زانيا بها، وهما على ذلك، وأنها ليست له بامرأة، فلذلك رأيت عليهما الحد قائما لا يزول، قال ابن الماجشون: الحد ساقط عنهما لسقوط شهادتهما في الطلاق؛ لأنه إذا سقط في الطلاق، فإنما شهدا أنه وطء امرأته، وهي امرأته كما هي لم تزل، قال أصبغ وعبد الملك: ولو شهدا عليه بطلاق امرأته البتة، وشهدا أنهما رأياه على بطنها أو في لحاف عريانين جميعا فيما دون ما يحق الزنا، فالطلاق لازم، يفرق بينهما، ويؤدبان فيما فعلا من ذلك.
وسئل سحنون عنها فقال: الشهادة ساقطة، ولا حد عليهما؛ لأنهما لما سقطت شهادتهما في الطلاق، ولم تجز فيه لم يجب عليهما الحد، ونظيرتها الرجل يهلك، ويترك أخاه، وأمة حاملا، وعبدين، فأعتقهما الأخ، فشهد العبدان أن الأمة حامل من سيدها، وأن الأمة ولدت غلاما أن الشهادة ساقطة؛ لأنها لو ثبتت رد عتقهما، وصارا رقيقين، فلما بطلت الشهادة لم يلزمهما من إقرارهما بالرق شيء، وقاله أصبغ.
قيل لأصبغ: فلو بتل عتقهما في مرضه، وله مال مأمون، أو كان ذلك لهما من الهالك بوصية عتقا بعد موته، فشهدا بهذه الشهادة بعد تنفيذ الوصية لهما، أو قبل تنفيذها لهما بالعتق؟ فقال: أما الذي بتل عتقهم قبل موته، أو كان ذا مال مأمون، وأوصى لهم بالعتق، وحملهما الثلث، فشهادتهما جائزة، يرد بها الأمر كله إلى سبيل ما شهدوا به، ولا يضرهما ذلك؛ لأن عتقهما تام ماض، كان هذا، أو لم يكن، والموصى بعتقهم إذا كان في ثلث الميت ما يحملهم فهم كالمبتلين قبل موته، وشهادتهما جائزة لا يرقون هاهنا بشهادتهم شيئا من أنفسهم، قلت: فلو كان الثلث لا يحملهم فأتمه الوارث عن نفسه وأمضاه لهما؟ قال: لا تجوز شهادتهما، وكان مثل أول المسألة؛ لأن الشهادة إن أجيزت رجع الرق عليهما فيما فضل عن الثلث، فسقطت شهادتهما، وصارا بمنزلة ما لو ابتدئ عتقهما.
قال الإمام القاضي: قد قيل: يلزمه الطلاق ويحد الشاهدان، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعلى مذهب أكثر أصحاب مالك، في أن شهادة القاذف لا تجوز قبل الحد ولا بعده، وقال: هو قبل الحد هو شر منه بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وليس قوله بصحيح؛ لأن الله تعالى إنما نهى عن قبول شهادته بعد الحدود، لا على قبولها قبل الحد بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]؛ إذ من حقه أن يعذر إليه ليأتي بما يصدق قوله، وقول ابن الماجشون وأصبغ وسحنون في هذه المسألة على ما ذهب إليه الشافعي من سقوط شهادة القاذف بنفس القذف قبل إقامة الحد عليه، وهو قول أصبغ في إيجاب الحد على الشهيدين، وإن سقطت شهادتهما في الطلاق أظهر من قول ابن الماجشون وسحنون، وإن كان محمد قد تابعهما على قولهما فقال: إن الحد لا يلزمهما إلا بعد القضاء عليه بالطلاق؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
والإذاية قد حصلت بما رمياه به من وطئه إياها بعد طلاقها البتة، والمسألة التي نظرها سحنون بها فقال: إنها نظيرة لها، لا تشبهها؛ لأن الشهادة فيها لما ردت من أجل أن الشاهدين يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، وجب أن يبقيا على حالهما من الحرية، ولا يلزمهما إقرارهما بالرق؛ إذ لا يجوز لحر أن يرق نفسه، والطلاق لما ردت الشهادة فيه من أجل أن الشاهدين يجرحان بما شهدا به من أنهما رأياه يزني بها بعد الطلاق، لم يمنع أن يلزمهما الحد؛ لأنه حق عليهما يجب أن يؤخذا به بخلاف الرق الذي لا يجوز للحر أن يلحقه بنفسه، فالحد في مسألة الطلاق مختلف في وجوبه، والرق في المسألة التي نظرها بها متفق على سقوطه، وذهب ابن كنانة فيهما إلى أن ينفذ حريتهما على الأخ؛ لأنه أعتقهما بشبهة الميراث، وتجوز شهادتهما للأمة، ويلحق نسب ابنها، ويغرم له الأخ القيمة، ويكون الولاء له، قال: لأني إن أجزت شهادتهما في الرق، كنت قد حكمت بشهادة العبيد، وإن لم أجز شهادتهما، ونفذت عتقها قالت الأمة: لمَ لم تحكم لي بشهادتهما وهما حران، فهي مهملة، والجواب فيها ما قلت لك، وكذلك قال فيها القاضي ابن كنانة في رجل ورثه بنو عم له، فورثوا معهم أختا لهم جهالة، فصار لها في حظها عبد فأعتقته، ثم تبين لهم أنهم أخطئوا على أنفسهم، وأنها ليست بعصبة؛ أن العتق ينفذ عليها لشبهة الميراث، وتغرم القيمة لإخوتها، ويكون الولاء لها، وقال يحيى: يرد عتقها؛ لأنها أعتقت ما لم تملك، وهو الصحيح، والله أعلم.

.مسألة شهادة غير العدول:

من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يحبس في الدم، فيأتي المدعي ببينة ليسوا بعدول، ويكون الشهود جماعة، فيقولون: قد كان هذا الأمر عندنا فاشيا مشهورا، فحبس هذا في الحبس إلى متى يكون حبسه؟ فقال ابن القاسم: شهادة غير العدول بمنزلة من لم تقم القاضي له بينة، فإن كان من أهل الريب فليحبسه الشهر ونحوه، وإن كان بريئا، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى عليه قريبا اليوم واليومين ونحوه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في المدعى عليه الدم إذا شهد عليه غير العدول، وهو من أهل التهم: إنه يحبس الشهر ونحوه هو مثل ما في سماع عبد الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الديات، وخلاف نص ما في الواضحة لمالك، من أن من ألطخ القاضي بالدم، ووقعت التهمة عليه، ولم يتحقق من ذلك ما تجب به القسامة أنه يحبس الحبس الطويل، ولا يعجل بإخراجه منه، حتى تتبين براءته، أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة، حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول حبسه، ولا يطلق إذا سرح بعد الشهر، أو بعد الطول حتى يستحلف خمسين يمينا، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الديات. وقوله: وإن كان بريئا؛ يريد وإن كان غير متهم، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى عليه قريبا اليوم واليومين ونحوه، هو مثل ما في سماع عبد الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما في سماع ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.

.مسألة لشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة لجهالته به:

وسئل عن الشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة لجهالته به، فيقول الشاهد: لست أعرف هاهنا، وأنا معروف في بلدي، فاكتب إلى قاضي بلدي، فأعدل عنده هل ترى أن يكتب في عدالته إلى قاض معروف بتجويز البينة والعدالة، وأنه يقبل كل من شهد عنده ويعدل، فإن بعض القضاة غير موثوق بهم؟ قال ابن القاسم: لا ينبغي للقاضي أن يكتب في مثل هذا، ولا يحل له إلا أن يكون قاضيا عدلا موثوقا بناحيته، ولا يجيز كتاب جائر إذا ثبت ذلك عنده، ولا يحل له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة العامل ورب المال شهادة كل واحد منهما لصاحبه:

قال: وسألت ابن وهب عن الشاهد يشهد للرجل والذي شهد له في يد الشاهد مال قراض أو سلف، هل ترد لذلك شهادته مليا كان أو معدما؟ فقال: إن كان الشاهد مليا جازت شهادته أسلفه أو قارضه؛ لأن العدم عندي من أعظم التهمة، وقال أشهب: إذا كان عدلا جازت شهادته مليا كان أو معدما، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في العامل ورب المال: إن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، وسئل عنها سحنون فقال: إذا شهد العامل لرب المال، والمال قائم بيد العامل، لم يشتر به شيئا، فلا تجوز شهادته؛ لأنا نتهمه أن يكون إنما شهد له ليقر المال بيده، فإن كان المال قد صرفه في سلع، فشهادته له جائزة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في آخر سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدتا على امرأة أنها ضربت بطن امرأة فألقت مضغة:

قال عبد الملك: سئل أشهب وأنا أسمع عن امرأتين شهدتا على امرأة أنها ضربت بطن امرأة فألقت مضغة، قال: تحلف مع شهادتهما، وتستحق دية جنينها.
قلت: فهل عليها كفارة؟ قال: لا كفارة عليها.
قال محمد بن رشد: قوله: وتستحق دية جنينها؛ معناه وتستحق حقها من دية جنينها، وقد قال ابن دحون: إنما أتى بهذه المسألة على أنه ليس للجنين وارث غير أمه، ولو كان له ورثة غيرها حلفوا كلهم، واقتسموا الغرة على كتاب الله؛ لأنها ليست قسامة، وهو كلام غير معتدل؛ لأنها لا تستحق دية الجنين على قول من يرى أنها موروثة على فرائض الله، وإن انفردت بها، وإنما تستحق منها بيمينها الثلث، ويكون سائرها لبيت المال، وإنما تستحق جميع دية الجنين بيمينها على مذهب من يرى أنها لها خاصة، ليس للأب فيها شيء ولا لغيره؛ لأن الجنين عضو من أعضائها، وهو قول ربيعة، أو على مذهب من يرى أنها للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما انفرد بها فهو أحق بها، وبذلك كان مالك يقول: ثم رجع عنه، وهو قول المغيرة وابن دينار وابن أبي سلمة، وقال ابن الماجشون بقول مالك الذي رجع إليه: إن دية الجنين موروثة على فرائض الله تعالى، وبالله التوفيق.

.مسألة هل يعدل الرجل أخاه:

وسألت أشهب هل يعدل الرجل أخاه؟ فقال: لا يعدله.
قلت: فهل تجوز شهادته له في الجراحات خطأ كان أو عمدا؟ فقال: نعم.
قال الإمام القاضي: قول أشهب هذا: إن الرجل لا يعدل أخاه؛ خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وفي المبسوطة لابن نافع وابن الماجشون: أنه لا تجوز تزكية الأب لابنه، ولا الابن لأبيه، ولا الزوج لزوجه، ولا الأخ لأخيه، واحتج ابن الماجشون في رد تزكية الأب لابنه بقول الله عز وجل: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15]، فجعل صلاح ذريته من صلاحه وصلاحه من صلاحهم، وقال مطرف بن عبد الله: ليس ذلك على ما قالا، وشهادة الأخ لأخيه إذا كان منقطع العدالة في كل شيء جائزة إلا في الولاء، وقال أبو المصعب الزهري: تجوز شهادته إلا في ولاء أو مال يجره إليه إذا كان فقيرا، وتجوز تزكيته له إذا كان منقطع العدالة، إلا فيما يدفع به عنه عارا، وقال مالك: تجوز تزكية الرجل إذا كان عدلا غير متهم لابنه وأبيه وأخيه ولامرأته إذا زكاهم، روى ذلك عنه ابن نافع وزياد بن عبد الرحمن، والمشهور أنه لا تجوز تزكية الرجل إلا لمن تجوز شهادته له، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهد لعمه في حق له على رجل وليس للعم وارث غيره:

من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن الرجل يشهد لعمه في حق له على رجل، وليس للعم وارث غيره، هل تجوز شهادته؟ قال: نعم؛ إذا كان عدلا منقطعا في الشهادة، ولم يكن محتاجا إلى ما في يديه، وليس هو ممن يمونه، ولا يحمل نفقته، قال: ولا تجوز شهادته له في فرية، أو حد جر إليه مما يجمعه، وإياه عصبية أو محمية.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال: إن شهادة الرجل لعمه بالمال وإن لم يكن له وارث سواه جائزة؛ لأن التهمة بالميراث ضعيفة، فلا يتهم فيها المبرز بالعدالة، وأما شهادته له في الفرية والحدود، وما تكون فيه العصبية والحمية، فبين أنه لا تجوز شهادته له فيه كالأخ، وبالله التوفيق.

.مسألة ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال:

ومن كتاب الوصايا:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم سئل عن رجل أوصى لفقراء أقاربه بحائط يغتلونه، فلم يشهد على تلك الوصية إلا أغنياء بني عمه، فقال: لا تجوز شهادتهم خوفا من أن يحتاجوا إلى ذلك يوما ما، إلا أن يكون شيئا تافها يسيرا، لا خطب له، ولا يتهمون في مثله لغناهم، ولعله لا يدركون ذلك، فإذا كان الأمر الخفيف الذي لا يتهمون على جر ذلك لأنفسهم رأيت ذلك لهم، وذلك أني سمعت مالكا سئل عن ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال ولأموال، قال: إن كانا قريبي القرابة يتهمان في جر الولاء إليهما، فلا يجوز، وإن كانا من الفخر من الأباعد لا يتهمان على جر ذلك لأنفسهما، رأيت شهادتهما جائزة، وإن كان الولاء يرجع إليهما يوما ما، قال ابن القاسم: وهذه المسألة تشبه مسألتك. قال ابن القاسم: ولأنه لو استغنى بعض فقرائهم، وافتقر بعض أغنيائهم، أخرج من استغنى منهم، ودخل من افتقر، وإنما تقسم على من يكون فقيرا يوم يقع القسم في كل عام، وقاله أصبغ كله إلا أن يتباعد جدا، أو تتباعد التهمة فيما يرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، فلا وجه للقول فيها، والله الموفق.

.مسألة يبعث مع الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل ويقول اشهدا أنتما عليه:

ومن كتاب الكراء والأقضية:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبعث مع الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل، ويقول: اشهدا أنتما عليه، فيفعلان ويذكر الذي بعث بالمال إليه أنه لا تجوز شهادتهما عليه؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما غير الغرم من العيب والتهمة وما أشبه ذلك، قال: ولا يكون عليهما غرم؛ لأنه بذلك أمرهما وبعثهما يشهدان عليه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن شهادتهما على المبعوث إليه لا تجوز لما يلحقهما في ذلك من الظنة، وأنه لا غرم عليهما؛ لأنه قد أذن لهما في الدفع إليه دون إشهاد، فيحلف المبعوث إليه أنهما ما دفعا إليه شيئا، ويغرم الباعث، ولا شيء على المبعوث معهما، وبالله التوفيق.